هذه الدراسة والدراسة السابقة التي كانت بعنوان: (الأنبياء والرسل مخيرون وليسوا مسيرين)، لهما علاقة وثيقة بدراستنا حول الديانات الشرقية القديمة: (البرهمية، البوذية، الكونفوشيوسة، الزرادشتية)، والذين بدأنا الحديث عنهم في مقالين سابقين بعنوان: (البوذية ديانة سماوية وبوذا نبي)، ويمكن مراجعتهما على الرابط التالي:
www.rezgar.com/m.asp?I=1249إن توضيح طبيعة النبوة والرسالة، وطبيعة الرسالات السماوية كما جاءوا في القرآن الكريم، سوف يمكننا من الوصول إلى أرضية مشتركة بين الإسلام والديانات السماوية جميعا وبين الديانات الشرقية، وذلك عن طريق استقراء النصوص الدينية والتاريخية لتلك الديانات القديمة، مما سيجعلنا في نهاية المطاف نصل إلى نتيجة مؤكدة بأن أصول الديانات الشرقية هي أصول إلهية توحيدية أوحى الله بها إلى أهل تلك البلدان. إن الرسالات السماوية هي واحدة، وليست واحدة، فهي واحدة من جانب أن جميعها جاءت تدعوا إلى وحدانية الله بأركانه الثلاث: الألوهية، الربوبية، واللامثلية، وهذه الوحدانية سوف نتناولها لاحقا في دراسة مستقلة. أما أن الرسالات السماوية ليست واحدة، فمن ناحية المادة الرسالية التي جاءت بها كل رسالة على حدة، فمن استقراء نصوص القرآن الكريم حول الرسالات جميعها، وجدنا أن الله قد أرسل رسالاته على نوعين، رسالات عامة مفصلة مركزية كبرى، ورسالات فرعية تجديدية، وقد جاء في القرآن الكريم أيضا أن الرسالات العامة المركزية الكبرى تحتوي على عدة موضوعات شاملة كاملة مفصلة، لم تأت بها الرسالات الفرعية التجديدية، وسوف نفصل ذلك في السطور التالية. # أنواع الرسالات الإلهية: لو تتبعنا خطى الرسالات الإلهية التي أوحى الله بها إلى الموكب الكريم من الأنبياء والمرسلين في القرآن الكريم، لوجدنا أن الرسالات الإلهية جميعها من حيث مضمونها تهدف إلى حقيقة واحدة وحيدة، هي: تعريف الإنسان بحقيقة وجوده في هذه الدنيا، ومصيره بعد رحيله منها، ومن ثم علاقة الله الخالق به، وعلاقته بالخالق، ثم إلزامه بطائفة من القيم السلوكية الإنسانية التي تنظم سلوكه الشخصي مع بني جنسه، ومع الأشياء من حوله، وإلزامه أيضا بطائفة من العبادات والشعائر التي تربط الإنسان بربه، وتذكره به كلما غفل أو نسي أو شغلته متطلبات الحياة عن حقيقة وجوده وعلاقته بربه وبالآخرين وبالأشياء من حوله.
أما الرسالات الإلهية التي أوحى الله بها إلى الأنبياء والمرسلين فتختلف عن بعضها البعض، من حيث توقيتها، ومن حيث مادتها، ومن حيث مهامها، إذن فهي مختلفة من حيث التوقيت، ومن حيث المادة، ومن حيث المهمة التي كُلِفَ بها النبي أو الرسول في هذه الرسالة أو تلك. فجميع الرسالات التي أوحى الله بها إلى الأنبياء والرسل أتت على نوعين لا ثالث لهما، وهما: النوع الأول: الرسالات الجديدة العامة المفصلة المركزية الكبرى. النوع الثاني: الرسالات الفرعية التجديدية، ويمكن استعراض هذين النوعين على النحو التالي: # النوع الأول: الرسالات العامة المفصلة المركزية الكبرى: الرسالة العامة المفصلة المركزية الكبرى هي: رسالة جديدة عامة كاملة شاملة أوحى الله بها، وميزها عن غيرها من الرسالات، فهي تقوم على خصائص أريع هي:
1 – تأتي الرسالة الجديدة العامة المفصلة المركزية الكبرى في وقت قد اندثرت فيه الرسالات السابقة، بمعنى أن الرسالات السابقة لها قد ضاع مضمونها الحقيقي، وهدفها الأساسي، وبهتت ملامحها الأصلية، وتحولت إلى حزمة من العقائد والشعائر الوثنية التي لا تمت بصلة لأصل الرسالة الحقيقية، ولا بمضمونها الأساسي، ولا بملامحها الأصلية. وعند حدوث ذلك يبعث الله إلى برسالة جديدة عامة مفصلة مركزية كبرى.
2 – الرسالة العامة المفصلة المركزية الكبرى أوحى الله بها إلى رسول، والرسول هو: شخص عادي من الناس، لم يكن نبيا قبل أن يأتيه الوحي، إنما حصل على رفعة منزلة النبوة بعد الرسالة. وقد سبق وأن أوضحت الفرق بين النبوة والرسالة في مقالي السابق المعنون: (الأنبياء والرسل مخيرون وليسوا مسيرين).
3 – تتوجه الرسالة المركزية الكبرى لأكبر عدد ممكن من القرى ومن الناس، ولا تقتصر على قوم بعينهم، أو أناس بعينهم، بل يبعث الله رسوله بالرسالة المركزية الكبرى في أكبر القرى عددا من الناس، وأكبرها مقصدا وزيارة وتوجها إليها، أو وفق التعبير القرآني، يبعثه في أم القرى، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا). (59- القصص). فمن خلال دراسة قصص الأنبياء والمرسلين في القرآن الكريم، نجد أن الله قد بعث رسولا برسالة عامة مفصلة مركزية كبرى في مجموعة كبيرة ممتدة من القرى، ولم يبعثه في قرية تلو أخرى، إنما بعثه في أم القرى، وأم القرى هي أشهر القرى وأكبرها عددا، وهي أصل القرى ومرجعها، كمكة التي سماها الله حين نزول القرآن بأم القرى في منطقة الجزيرة العربية ومن حولها، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا). (7- الشورى)، لأن مكة وقتها كانت أكبر القرى في تلك المنطقة، وأكثرها مقصدا للحجيج والتجار والزائرين وذوي الحاجات. إذن الرسالات المركزية الكبرى قد أوحى الله بها في قرية هي عاصمة جامعة لعدد كبير من القرى والمدن من حولها، وهي ما عبر عنها القرآن بأم القرى.
4 – تأتي الرسالات العامة المركزية الكبرى في كتاب مخطوط مقروء، ذلك الكتاب قد يأتي في صحف، أو ألواح، أو مجموعة رسالات مخطوطة. وقبل أن نسترسل في موضوع هذه الدراسة، لابد وأن نفرق بين مفهومين لكلمتي (كتاب) و(كتابة): الأول: مفهوم خاطئ يفهمه معظم الناس، والثاني: مفهوم صواب وهو ما نعتمده في هذه الدراسة، المفهوم الخاطئ لكلمتي كتاب وكتابة والذي يعتقده معظم الناس، أن كلمة كتاب تعني مجموعة الأوراق المخطوطة حول موضوع معين من الموضوعات العلمية أو غيرها من الموضوعات، وهذا مفهوم خاطئ يعتنقه معظم الناس، أما المفهوم الصحيح لكلمة كتاب هو: مِنْ (كَتَبَ) ومعنى كتب أي جمع بين شيئين أو أكثر، إذن معنى كتاب هو عدة موضوعات مختلفة ومتنوعة تم جمع بعضها إلى بعض، سواء كان الكتاب مخطوطا في أوراق، أو محفوظا في الذاكرة، وفي كلتا الحالتين تسمى هذه الموضوعات المجموع بعضها إلى بعض بـ(كتاب)، هذا هو المفهوم الصواب لكلمة كتاب وفق اللسان القرآني، أما عملية الخط والتي يطلق الناس عليها خطئا مصطلح (كتابة)، فالمسمى الأصلي لها هو كلمة (خط) والخط هو الأثر الممتد امتدادا لتثبيت شيء ما والدلالة عليه، إذن فالخط غير الكتابة، أما الكتابة فهي عملية جمع موضوعات متعددة سواء تم خطها على الورق، أو لم تخط على الورق، والذي يدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ). (48- العنكبوت). فقال سبحانه تخطه بيمينك ولم يقل تكتبه بيمينك. أما الكاتب فكلمة تطلق على الشخص المتخصص في جمع الموضوعات المتعلقة بأمر ما، ثم يقوم بخطها على الورق، فهذا الشخص يسمى (كاتب)، ومن ذلك أيضا نتبين معنى قوله تعالى عن الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله، أي أن رجال الدين من أهل الكتاب كانوا يقومون باختلاق موضوعات دينية سواء خطوها أو لم يخطوها، ثم يقولون للناس هذا كتاب من عند الله.
# موضوعات الكتاب الإلهي أو الرسالات الإلهية :
يخلط معظم الناس بين موضوعات الكتب والرسالات الإلهية، حيث يعتقدون أنها جملة أسماء لموضوع واحد، فينتج عن هذا الخلط كثير من المعلومات والمفاهيم الخاطئة، التي تشوش على الناس فهمهم لموضوعات الكتاب الإلهي، فمثلا نجد معظم الناس يخلطون بين معنى ومفهوم الكتاب كما سبق وأن بينا، وبين معنى كل من العلم، والحكمة، والحكم، والآيات البينات، والشعائر والعبادات والنسك، ويعتقدون أن جميعها شيء واحد أو موضوع واحد، وسوف نوضح الفروق بين كل مصطلح فيما يأتي. إن الكتاب الإلهي الخاص بالرسالات العامة الكبرى والموحى به من الله يتضمن عدة موضوعات مختلفة، هذه الموضوعات هي: العلم، والحكمة، والحكم، والشعائر والعبادات والنسك، ونقوم بتفصل موضوعات كتاب الرسالات العامة المفصلة المركزية الكبرى على النحو التالي:
أ –
العلم: ومعناه: أثر أو رمز بالشيء يميزه عن غيره. وهو من الرمز أو الأثر أو العلامة التي تميز من يتصف بها عن غيره من الناس، ومفهوم العلم في التعبير القرآني: هو ما أوحى الله به من غيبيات عقائدية كوجود الله ووحدانيته والبعث والحساب والجزاء، وأيضا أنباء من سبق من الأمم، وبعض النبوءات عما سيحدث في المستقبل، إذن، التوحيد ووجود الله والحساب والجزاء في الآخرة وأحوال الأمم السابقة والنبوءات المستقبلية كلها علم، وموضوع هذا العلم هو أثر يتميز به الرسول عن غيره من الناس، وهذا العلم لم يكن للرسول أن يعلمه إلا بوحي من الله وحده، وبعد مجيء الوحي لو اجتهد الإنسان في التفكر والتدبر والبحث والتقصي والسير في الأرض لتوصل حتما إلى حقائق هذا العلم. إذن مفهوم العلم في التعبير القرآني هو طائفة من العلوم الغيبية التي يتميز بها الرسول أو النبي عن غيره من الناس. وقد أخبر إبراهيم عليه السلام أباه بأنه قد جاءه من الله علم يمنعه من عبادة الأصنام، ويأمره بعبادة الله وحده، وأن من يشرك بالله فسوف يمسه عذاب من الله جزاء شركه، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِياًّ* يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياًّ* يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا). (41: 45).
ب –
الحكم: وهو المنع فكل ما يمنع الإنسان عن شيء يفعله أو يقوله فهو الحكم، وهو مأخوذ من حَكَمَةِ الفرس، وهي ما توضع في رأس الفرس لمنعه من الشرود. أما الحكم في التعبير القرآني هو: جملة الأحكام التشريعية التي تختص بالفصل بين المنازعات، وهي الأحكام التي تمنع من ظلم الناس بعضهم بعضا، وهي الأحكام التي تقضي على الاختلاف بين المختلفين، وتشمل أيضا أحكام الزواج والطلاق والأسرة والمعاملات، وأيضا جملة العقوبات الرادعة التي وضعت لعقاب من يرتكب بعض الجرائم كالسرقة والزنا والقتل وغيرها من الجرائم. والحكم أو الحاكم أيضا وفق التعبير القرآني: هو الشخص الذي يحكم بين الناس طبقا للتشريعات الموحى بها في كتاب الله. قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ). (213- البقرة). وقال تعالى عن كتاب الإسلام : (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ). (37- الرعد).