الرئيس جورج دبليو بوش يُصغي إلى آراء زعماء ديانات كثيرة خلال اجتماع
في البيت الأبيض (صورة من البيت الأبيض) الدين والدولةيبرز انقسام من بين جميع الانقسامات المفترضة في الحياة الأميركية على أنه ذو أهمية خاصة. يُقال لنا، أحياناً كثيرة ومتكررة، أن خط الصدع في أميركا هو ديني في طبيعته، يجمع بين جميع الذين يؤمنون بقوة بالله، أياً كان الإله الذي يؤمنون به، من جهة، وبين أولئك الذين لا يرون أن اليد الإلهية توجّه كل الأعمال البشرية، من جهة ثانية. لكن، إذا ما تبين أن الدين في أميركا هو مصدر للوحدة بقدر ما هو مصدر للشقاق، عندها تكون احتمالات الوحدة رغم كل الاختلافات، أو "من الكثرة واحد"، قد تعززت بصورة ملحوظة.
لقد آمن العديد من مؤسسي الولايات المتحدة أن السلوك الأخلاقي المشترك يتطلب ديانة مشتركة. لكن، لما كانت الولايات المتحدة قد ألزمت نفسها بفصل الدين عن الدولة والتزمت الحرية الدينية في التعديل الأول لدستورها، لم تكن هناك أبداً ديانة مشتركة للولايات المتحدة، على الأقل، ليس بالمعنى الرسمي. ومع ذلك، يبقى أن الأغلبية العظمى من الأميركيين، أيام الآباء المؤسسين، كانت من البروتستانت وكانت، على الرغم من عدد الطوائف البروتستانتية الكبير، تتشاطر جميعها على الأقل أفكار الحركة الإصلاحية.
غير أن أية آمال بإمكانية العثور على مصدر غير رسمي للوحدة في الانتماء الواسع للبروتستانتية، انهارت نتيجة لوصول أعداد كبيرة من المهاجرين من خلفيات غير بروتستانتية خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وكان التوتر بين العقائد قوياً لدرجة أن حرباً ثقافية حقيقية، أعنف وأكثر إحداثاً للانشقاقات بكثير من تلك المفترض أنها قائمة اليوم، اندلعت في مدن مثل بوسطن بين البروتستانت المولودين في البلاد وبين المهاجرين الكاثوليك من إيرلندا والبلدان الأخرى، ونتج عنها خسارة كبيرة في الأرواح والممتلكات. لكن تم، مع الوقت، التوصل إلى حل سلمي نسبياً للنزاع بين الأديان. ومع أن الطوائف المسيحية المتنوعة لم تكن قد أظهرت أبداً الكثير من الوحدة في ما بينها، فقد بدأت الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين تسمي نفسها مجتمعاً "مسيحياً - يهودياً"، يُوحّدها كون دياناتها الكبرى الثلاث تشترك، على الأقل، في نص مقدس واحد، هو الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل).
ورغم أن الغرض الأصلي من تعبير المسيحي - اليهودي كان في الأساس شمولياً يلمّ الشمل، إلا أنه يبدو الآن بمثابة تعبير يستثني الآخرين إذ أنه لا يشمل المسلمين والهندوس والبوذيين والعديد من الأديان الأخرى التي وصلت إلى أميركا بعد إصدار قانون الهجرة والجنسية الواسع الأبعاد سنة 1965، والذي وضع حداً لسياسة الكوتا أو تحديد عدد المهاجرين الذي كان لصالح المهاجرين من أوروبا. وقد وصلت التعددية والتنوع في الولايات المتحدة اليوم إلى درجة نفتقر معها إلى تعبير واحد لوصف أنفسنا. وقد اقترح البعض تعبير "إبراهيمي" ، الذي يشمل المسلمين، ولكنه يستثني في نفس الوقت الديانات الشرقية. ولعله لا يوجد هناك اليوم أي مجتمع في العالم يزدهر فيه هذا العدد الكبير من الديانات في نفس الوقت كما هي الحال في الولايات المتحدة، ويمكن إعادة جذور كل هذا التنوع إلى القرار الذي اتخذه اتخذها مؤسسو أميركا بتشجيع الحرية الدينية.
ثقافة مشتركة؟إزاء هذا الكّم الهائل من التنوع، بدأ البعض يقول إن الأميركيين يفتقرون إلى ثقافة مشتركة، وأنهم يواجهون، نتيجة لذلك، احتمال وقوع انشقاق بالغ الأهمية. وقد كانت هذه هي رسالة، "من نحن"؟، وهو كتاب أصدره سنة 2004 العالم السياسي في جامعة هارفرد، صموئيل ب. هنتنغتون. وقد ركز هنتنغتون بالدرجة الأولى على الأميركيين المكسيكيين الذين يأتي العديد منهم من خلفيات كاثوليكية، مصراً على أهمية وجود ثقافة مشتركة شكلتها الأنغلو - بروتستانتية يجب على المهاجرين الجدد الانتماء إليها. ولم يُركز هنتنغتون على الدين كمسبب للانشقاق، بل على أنواع الثقافة التي ترسم معالمها تقاليد الديانات المختلفة. ورغم هذا، يستحضر كتابه الحقبات السابقة في التاريخ الأميركي عندما دفعت المخاوف من التنوع الكتّاب إلى الاستنتاج أنه ما لم تعثر الولايات المتحدة على طريقة لحل مشكلة وجود عدد كبير جداً من الثقافات المتنافسة، فأن مستقبلها لن يكون مضموناً.
ما من شك بوجود تنوع ديني أو تعددية دينية في أميركا. إلا أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التشكيك في الاستنتاج بأن التعددية هي مصدر للشقاق. ذلك أنه على الرغم من أن الأميركيين منتظمون في أنواع مدهشة ومتعددة من الطوائف والتقاليد، فإن الثقافة الأميركية تعمل كقوة قادرة على صياغة جميع دياناتها. وقد بدأ العلماء، خلال الأعوام الأخيرة، التركيز ليس على نصوص ومعتقدات الديانات الأميركية وحسب، بل وأيضاً على الطرق الحقيقية التي يمارس بها الناس العاديون معتقداتهم الدينية. ويشير أحد الاستنتاجات التي تم التوصل إليها من خلال تلك الأبحاث إلى أنه أياً كانت الفوارق بين ديانة وأخرى، فإن الناس كثيراً ما يمارسون عباداتهم بطرق لافتة للنظر بمدى تشابهها.
فالأميركيون، على سبيل المثال، يفضلون الديانات التي تخاطبهم شخصياً مباشرة. إنهم لا يثقون بالسلطات البعيدة، وفي بعض الحالات، لا يثقون حتى بالسلطات المحلية. وهم يتوجهون بوجه عام نحو الدين لأسباب عاطفية أكثر منها فكرية؛ والنصوص المقدسة لا تشكل بالنسبة لهم وثائق وجدت لكي تُدرس بسبب أفكارها المفحمة، بل هي مصادر توجيهية حول كيفية تنظيم حياتهم في الأوقات الصعبة. والدين يوفّر لهم إحساساً قوياً بالصواب والخطأ، لكن الدين على استعداد في الكثير من الأحيان لغفران خطايا الناس ومنحهم فرصة جديدة. ويشعر الأميركيون عادة أيضاً، عبر إيمانهم، بمشاعر من التمكن والثقة. إن دينهم يعلمهم الحقائق، لكنه يقدم لهم أيضاً المحبة. ويتحّول الأميركيون أحياناً عن عقائدهم الأصلية بحثاً عن ديانة تقدم لهم شعوراً بالأصالة. ولا ينطوي الدين بالنسبة لهم على نوع من الالتزام المتزمت بالتقاليد، بل هو طريقة خلاقة ديناميكية تتغير باستمرار للتكيّف مع عالم مُعقّد.
ونظراً لكون الأميركيين يعيشون ديانات مختلفة بطرق متشابهة لافتة في الكثير من الأحيان، يمكن أن يشكل الدين مصدراً مهماً للوحدة. ولا يتعين على الناس الاتفاق حول من هو الله أو ما هو؛ بل يكفيهم أن آخرين يحاولون العثور على طرق إلى الإيمان تتناسب مع احتياجاتهم. وهذه الطرق المشتركة في ممارسة الدين قوية لدرجة أن المهاجرين الجدد القادمين حديثاً سرعان ما يكيّفون دين بلدهم الأم مع الواقع الأميركي. وفي القرن التاسع عشر، طوّر الكاثوليك واليهود طرازاً أميركياً لديانتيهما. ويقوم المسلمون والهندوس اليوم بالشيء نفسه تماماً.
أميركي فذ:
الخدمة التطوعية
كرسّت
كلارا بارتون (1821-1912) حياتها لخدمة الآخرين. فقد بدأت التعليم في المدارس وهي في الخامسة عشرة وأسست لاحقاً مدرسة رسمية مجانية في بوردنتاون بولاية نيو جيرسي. وعندما اندلعت الحرب الأهلية الأميركية، أطلقت برنامج مساعدة لجمع الإمدادات الطبية والسلع الأخرى لتوزيعها على الجنود المصابين. وقد حققت جهودها نجاحاً باهراً جعل الحكومة تسمح لها بأن تسافر مع سيارات الإسعاف العسكرية لخدمة المرضى والمصابين. وقد أمضت بارتون ثلاث سنوات تتبع العمليات العسكرية، حيث كانت تحتضن رؤوس الجنود المصابين، وتقدم لهم الطعام والماء، وتساعد الأطباء الجراحين في عملهم، وتنظم البرامج للبحث عن الجنود المفقودين أثناء خدمتهم. وأسست بارتون، استناداً إلى تلك التجارب، الصليب الأحمر الأميركي سنة 1881، وخدمت كرئيسة متطوعة له لغاية 1904، ووسّعت دور حركة الصليب الأحمر الدولي بحيث تجاوز تقديم المساعدة في ساحات القتال ليشمل تقديم المساعدات والإغاثة في أوقات الكوارث. وظلت تعمل في ميدان برامج المساعدات لسنوات عديدة بعد بلوغها السبعين من العمر.
تَعَرُّف الناس على بعضهم البعضإن ما ينطبق على الدين، ينطبق على نواحي الحياة الأخرى في أميركا. فالتجربة والخبرة تسمح بإيجاد نقاط تشابه حتى في وجه الفوارق. فبقدر ما يتعرف الأميركيون البيض على الأميركيين غير البيض في أماكن عملهم، بقدر ما تتراجع العنصرية. وبقدر ما يتزوج الأبناء بأناس من خلفيات غير خلفياتهم، بقدر ما تختفي بسرعة أكبر الانقسامات التي أفسدت حياة أجيال آبائهم وأجدادهم. صحيح أن العديد من الجنوبيين والشماليين قد لا يتفقون حول الأمور السياسية، لكن أنماط حياتهم متشابهة بصورة لافتة؛ فهم يقودون نفس أنواع السيارات إلى نفس أنواع متاجر التسّوق الكبرى لشراء أنواع المنتجات نفسها. فمع كل ما يقال عن أميركا الزرقاء والحمراء، يمكن وضع أي إنسان في أي مكان من البلاد ليجد أن كل شيء مألوف لديه، بل مألوف إلى حد مفرط.
والواقع هو أن كل الأسباب تدعو إلى الاعتقاد بأن الانشقاق الذي شهده الأميركيون في عام 2004 سيؤدي على الأرجح إلى بروز حركات مضادة هدفها تذكير الأميركيين بأنهم يتشاركون معاً في جنسيتهم القومية رغم كل الفوارق السياسية بينهم. ويعود الاستقطاب في معسكرين منفصلين بمكاسب سياسية واضحة، وعلى الأخص للمتحزبين الذين يحشدون أتباعهم بالتشديد على النوايا الخبيثة الموجودة لدى الجانب الآخر. إلا أن ما يحدث في المجال السياسي، على الأقل في النظام السياسي الديمقراطي الناجح، هو أنه تتم مقابلة كل رد فعل، في نهاية الأمر، بردة فعل معاكسة. وأنا أعتقد أن الأميركيين الذين توحدّهم الممارسات المشتركة للدين، والتجارب المشتركة في نواحي الحياة الأخرى، سوف يصلون النقطة التي سيتساءلون عندها عما إذا كان يجب معاملة الأميركيين الآخرين، الذين يختلفون معهم سياسياً، كما لو أن وجهات نظرهم تجعلهم خارج الحدود المقبولة.
وأنا واثق من أنهم، عندما يقومون بذلك، سوف يخلصون إلى أننا دولة واحدة في نهاية الأمر. فاستقلاليتنا الفردية الشخصية الأميركية وتوقنا إلى اكتشاف الذات يتغلبان على الفوارق بيننا. وطالما ظللنا نتذكر أننا نتشكل من ثقافة أميركية مشتركة، فإننا سنواصل، كما فعلنا أحياناً كثيرة في تاريخنا، مدّ الجسور التي تصلنا ببعضنا البعض وتبقينا متكاتفين متحدين.
<BLOCKQUOTE>
ألآن وولف أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز بويزي للدين والحياة العامة في جامعة بوسطن (مساتشوستس). من جملة مؤلفاته "دولة واحدة، رغم كل شيء" (1998)، و"التغير الجذري في الديانة الأميركية: كيف نعيش إيماننا حقا" (2003)</BLOCKQUOTE>
الى أعلى ملحوظة: إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة آراء أو سياسات الحكومة الأميركية