الزي الموحد وصورة لعسكرة المدرسة روح الطفولة تتحرر من رباط العنق وشرائط الشعر
لقاء الورد – الأردن
والثانوية وهم يزهون بملابسهم الجميلة النظيفة والموحدة اللون والشكل، كما يتفاخرون بما ابتاعه لهم أهاليهم من لوازم مدرسية، ابتداءً من الحقائب الأنيقة وانتهاءً بأدوات القرطاسية الجديدة. لا شك في أن هذا المشهد الجميل لا يمكن أن يكتمل وقعه في النفوس بدون الزي الموحد الذي يقدم لنا الشباب والنشء وهم يتوجهون إلى المدارس، وليس إلى اي مكان آخر. البنات يرتدين «الصدريات» أو الأثواب الموحدة التي يجب أن تلتزم بمقاييس معينة في الطول والعرض وما يضاف إليها من «تزويقات مقبولة»، أما الفتيان (في بعض الأقطار العربية) فهم يرتدون ملابس أشبه بملابس الرجال الكبار، حيث يشترط بعض التربويين عليهم حتى وضع ربطات العنق، تشبهًا بالكبار، باعتبارهم «جنتلمانية» Gentlemen أو شبابًا مهذبين هم أمل الأمة الصاعد.
وهكذا، ما أن تمر الساعة الأولى أوالثانية في المدرسة حتى ينسى الأطفال، فتيانًا وفتيات، تلك الساعات الطوال التي قضوها مع أمهاتهم وآبائهم لتهيئة الزي المدرسي الموحد بشكل مثالي، وعندما تبدأ الألعاب والمنافسات والمطاردات في ساحة المدرسة «تتفجر» روح الطفولة لتتحرر من خوانق ربطات العنق بالنسبة للأولاد، وتذهب شرائط الشعر مع ريح اللعب، بالنسبة للبنات.
لا شك في أن الزي المدرسي الموحد، الذي تلتزم به العديد من الأنظمة التربوية في الدول العربية، إنما هو تقليد مكتسب من الأنظمة التربوية الغربية، خاصة البريطانية، حيث كانت الفكرة (خاصة مع أفكار توماس آرنولد لدى تأسيسه نوعًا جديدًا من المدارس في القرن التاسع عشر) تتبلور في التوق لعمل تربوي بعيد النظر يريد إزالة جميع الفوارق (الطبقية والإثنية والدينية، وغيرها) بين الطلبة. والهدف هو الشعور المطلوب شيوعه بين الطلبة بأنهم متشابهون، بل ومتطابقون، بقدر تعلق الأمر بالشكل الخارجي والانحدار العائلي. وهنا يكون الزي المدرسي الموحد أداة لإبراز «الاختلافات» الذهنية والعملية بين الطلبة: فيكون الفرق بين «سين» و«صاد» مبنيًا على قيم العمل الدؤوب والمواظبة الحقيقية والتحضير والمذاكرة. هذه واحدة من فضائل المدرسة، ذلك أنها توحد جميع الأطفال، ثم الصبيان والشباب، في بوتقة ثقافية وتعليمية واحدة بعيدًا عما يلوث المجتمع (خارج المدرسة) من سلبيات التمييز والفوارق على أسس العرق أو اللون أو الدين أو الانحدار الطبقي.
نظرة تاريخية
لموضوع التمييز بين الناس على أساس ما يرتدون من ملابس جذور قديمة، حيث تدل التواريخ على أن الملبس إنما يمثل «هوية» من نوع ما، هوية تشير إلى الانتماء الإثني أو إلى المعتقد الديني أو حتى إلى الطبقة الاجتماعية والحرفة التي يمارسها الفرد. والأدلة ماثلة أمامنا اليوم، كما كانت في الأزمنة السابقة: فهذا رجل كردي إذا ما كان مرتديًا الملابس التراثية الكردية، وتلك امرأة تركية إذا ما كانت ترتدي الملابس التقليدية التركية، وهكذا. وهذا ينطبق بشكل دقيق على العرب، من بين سواهم من الأمم، إذ يمكن للجميع أينما كانوا تمييز العربي عن سواه من «النظرة الأولى» بسبب طبيعة ملابسه المستوحاة من البيئة الصحراوية، بل يمكن كذلك تمييز المنطقة العربية التي يأتي منها ذلك الإنسان العربي، تأسيسًا على الاختلافات البسيطة في الملابس. وبكل بساطة نعرف أن هذا عربي من العراق، وذاك عربي من الخليج، أو من شمال الخليج أو جنوبه.
أما في التواريخ القديمة وقبل غزو الملابس الأوربية لعالمنا الشرقي، فقد كان من السهولة بمكان أن يميز الفرد بين أتباع الأديان المختلفة على أساس ما يضعونه من ملابس وأغطية رأس وعلامات فارقة أخرى، تشمل حتى الحلي الرمزية التي يضعها الرجل أو المرأة. وكانت أسواق المدن العربية في القرون الوسطى (كما ينقل المؤرخون) زاخرة بأنواع الأزياء التي لا تعكس غنى الفرد أو فقره فقط، وإنما كذلك ديانته أو عرقه أو حرفته. ولم تزل هذه الظواهر البادية للعين المجردة موجودة في العديد من دول الشرق الأوسط التي تتكون تركيباتها السكانية من تنوعات مختلفة.
الأزياء الموحدة بين الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية
لذا لا يكون من الغريب أن تعمد الدول ذات الأنظمة الشمولية والاشتراكية إلى فرض نوع من «الزي الموحد» على مواطنيها، ليس فقط باعتبار أن الإنسان هو واحد، ولكن بإعتباره رقمًا في ماكنة مهولة تمثل المجتمع بأكمله. إنه تقليد يعكس الميل لتعبئة وعسكرة المجتمع، بغض النظر عن الجنس أو «الجنوسة» Gender. هذا ما حدث في الصين في سنوات الثورة الثقافية قبل وفاة الرئيس «ماوتسي تونغ»، حيث كان العامل البسيط يرتدي ما يرتديه الرئيس الصيني نفسه. يقول أحد التجار العرب الذين زاروا الصين في تلك المرحلة من تاريخها، إنه كان قد خصص له مترجم يقوم بمهام «المرافق» في نفس الوقت طوال فترة مكوثه في الصين الشيوعية. كان على هذا المترجم أن يأتي كل صباح إلى الفندق كي يصطحب التاجر العربي في الجولات المقررة مركزيًا، من الحكومة. ثم إنه كان عليه ألا يفارقه قط حتى ولو للحظة، قائمًا على خدمته ومساعدته في كل شيء. هذا التاجر العربي قرر تكريم المترجم/المرافق على هذا الجهد المضني قبل نهاية الرحلة بأن قدم له بدلة فاخرة من الصناعة الإنكليزية كان قد ابتاعها من «هونغ كونغ» قبل وصوله الصين. وقد فوجئ التاجر عندما اعتذر المترجم الصيني عن قبول البدلة، ليس ترفعًا، ولكن لأنه لا يمكن أن يرتديها في أي مكان: فكيف يرتدي هذا الموظف بدلة أرقى مما ترتديه الجموع، ومما يرتديه الرئيس الصيني نفسه؟
هذه «اشتراكية» ماحقة، ما لبثت حتى الصين أن غادرتها بعدما تبين أن الفروقات بين البشر لا يمكن ان تلجم بتوحيد الملابس. ولكن المبدأ يبقى مفيدًا بحدود الأنظمة التعليمية، حيث يكون الزي الموحد مهمًا على أسس تربوية تنأى بالطلبة والطالبات عن عواطف الضغينة والتنافر التي قد يتسبب بها عدم الالتزام بزي واحد يقلل من الفوارق الشكلية ويعظم من الفوارق الذهنية. لذا يكون اعتماد الزي الموحد مهمًا في العالم الرأسمالي الغربي كذلك، ليس في المجتمع عامة (كما كانت عليه حال الصين)، ولكن في المدرسة والجامعة على حد سواء. إن المساواة في المدرسة مهمة جدًا، ذلك أن بذور الفروقات تبدأ في نفوس الأطفال من تلك المرحلة كي تتعاظم وتكبر فيما بعد. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن تكون المساواة مطلقة: فأبناء الأغنياء يتحايلون على الزي الموحد بالالتزام به (حسب التعليمات) ولكنهم يتلاعبون به من خلال نوعية الزي الذي يرتدونه. فإذا ما كانت شروط الزي المطلوب متوفرة، لماذا لا يشتري الغني نفس الملابس المقررة من أسواق لندن أو باريس؟ ومن جهة ثانية، تعمد إدارات المدارس وحتى القيادات الجامعية إلى اعتماد الزي الموحد، ليس فقط كهوية مرئية تدل على طبيعة عمل الفرد، ولكن كذلك لمنع وتحاشي ظهور الملابس أو «أنصاف الملابس» المنافية للآداب وللذوق العام، الأمر الذي يحدو بهذه الإدارات إلى اشتراط شراء الزي الموحد المطلوب من مصدر واحد، أو إلى قيام المدرسة نفسها بتوزيعه للطلبة والطالبات سنويًا.
دوافع الاعتراض على الزي الموحد
ومن ناحية ثانية، تجب الإشارة إلى أن الاندفاع نحو الزي الموحد كان دائمًا يرتطم بالنقد والتجريح: فنقاد الزي الموحد يستوحون من الشكل الممل للطلبة بنفس الملابس يوميًا صورًا لنزلاء السجون أو لعسكرة المدرسة. إنهم يرون في هذا التوحيد جهدًا شكليًا يؤدي إلى كبح التمايز الفردي بين البشر حتى في اختيار الألوان وانتقاء الملابس والأزياء، وهي من مؤشرات «فردانية» الإنسان: قل لي ما تحب، أقل لك من أنت»! لذا يذهب هؤلاء التربويون إلى ضرورة منح الطلبة والطالبات هامشًا من حرية اللباس كي تتوفر لهم روح المنافسة التي قد تبدأ بالأزياء ولا تنتهي إلاّ في الامتحانات. أما نقدهم للزي الموحد باعتبار الروتين والتسبب بالملل الذي قد يشعر به الطلاب بسبب ارتداء نفس الملابس وذات الألوان يوميًا، فهو الآخر يجعل نقاد الزي الموحد يذهبون إلى أن المدرسة أو الجامعة ينبغي أن تكون أشبه بحديقة غناء مزخرفة بمختلف الألوان والأشكال وأنواع الأزياء الجميلة. بل إنهم يعتقدون أن المدرسة أو الكلية إنما هي الفضاء الوحيد الذي يمكن للطالب فيه أن يعرض طبيعة ذوقه وطرائقه في انتقاء الملابس بمنأى عن النقد الاجتماعي الذي قد لا يفلت منه في الأماكن العامة الأخرى كالأسواق والشوارع والمناسبات الاجتماعية. زد على هذا كله أن الطلبة من الفئات العمرية الشابة تواقون إلى هذا النوع من «العرض» الذوقي، إلى درجة أنهم غالبًا ما يتعمدون «التمرد» على ما يفرض من «الأعلى» عليهم بوصفهم فئة «أدنى». في الوقت الذي يرى فيه التربويون أن ارتداء الزي الموحد من قبل الطالب هو إشارة إلى «شرف» طلب المعرفة، تحاول سايكولوجية التمرد أو المشاكسة الشبابية أن تفسر الزي الموحد على أنه فرض خانق يتوجب على المرء «الثورة» عليه. أما هذه الثورة فإنها لا تتجاوز عبور أسيجة المدرسة أو الكلية وتجنب الدخول من الأبواب النظامية من أجل «تهريب» الملابس التي يرتديها الطالب دون ملاحظة مدير المدرسة أو معاونه: إنها ليست زيًا موحدًا وإنما هي «زي الهوى».